السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
قولهم: ( ليس في الإسلام نظام سياسي ) !
( يزعم الفكر العلماني أنه ليس في الإسلام نظام سياسي
محدد ينبغي الالتزام به، وغاية ما هناك وجود بعض المبادئ العامة في مجال السياسة
ولست أعرف بالضبط متى ظهرت هذه المقولة
ولا أول من أشاعها على وجه التحديد
وإن كانت جذورها تمتد إلى كتاب (الإسلام وأصول الحكم)
وذلك أنه قال عن
[size=25]نظام الحكم زمن النبي صلى الله عليه وسلم :
إنه كان موضع غموض وإبهام وخفاء ولبس )
ذكر الأدلة على مجيء الإسلام بنظام سياسي :
لقد جاء الإسلام بنظام سياسي، وطلب من المسلمين الالتزام به
دون ما سواه من الأنظمة السياسية
وعلى ذلك أدلة متعددة نوجزها فيما يلي:
أولاً :
النصوص الشرعية ودلالتها على مجيء الإسلام بنظام سياسي محدد:
جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ببيان نظام الحكم
(النظام السياسي) الذي ينبغي إتباعه والالتزام به
فبينت غايته وطبيعته وشكله، وأصل السلطة فيه،
ومصدر الإلزام به، وصفات القائمين عليه،
وواجباتهم وحقوقهم، ومكانة الأمة فيه،
إلى غير ذلك من الأمور التي جاءت بها النصوص الشرعية أو دلت عليها،
كما أعطته مصطلحاته الخاصة به
التي تميزه عن غيره بحيث لا يشبه في ذلك
نظاماً بشرياً سبقه،
ولا يشبهه نظام بشري جاء بعده،
فهو في ذلك متميز عن السابق واللاحق.
والنظام السياسي في الإسلام أو نظام الحكم هو الخلافة،
والقائم عليه هو الخليفة، وقد يسمى الإمام، والأمير، وأمير المؤمنين،
ومن النصوص التي جاءت في ذلك قوله تعالى: {
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً }
[البقرة:30]
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية:
"وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة
ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه فهو يقطع تنازعهم
وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش
إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى}
[ص:26]
. فقوله تعالى
{احْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
( بعد قوله )
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً }
( دليل على أن المراد بالخليفة هو الحاكم الذي يحكم بين الناس
وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:
"هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق
المنـزل من عنده تبارك وتعالى،
ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله"
وهذا يعني أيضاً أن المراد بالخليفة هو ولي الأمر أو الحاكم
الذي يحكم بين الناس. وقد ذكر ابن كثير أيضاً –في تفسير هذه الآية-
أن الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين،
سأل أبا زرعة أحد العلماء في زمانه قائلاً له:
أيحاسب الخليفة؟ فرد عليه أبو زرعة وقال له:
إن الله قد جمع لداود النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه وتلا عليه قوله:
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
الآية. وفي قوله:
" إن الله جمع لداود النبوة والخلافة"
تأييد لما ذكرناه من المراد بلفظ الخليفة في الآيات السابقة.
أما الأحاديث فجاءت منها طائفة كثيرة منها :
1- قوله صلى الله عليه وسلم :
" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء
كلما هلك نبي خلفه نبي
وإنه لا نبي بعدي
وسيكون خلفاء فيكثرون.
قالوا: فما تأمرنا؟
قال:ا فوا ببيعة الأول
أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
ففي هذا الحديث أن سياسة أمر الناس كانت في بني إسرائيل مناطة بالأنبياء
وأما في شريعتنا فإن سياسة أمر الناس –
بعد الرسول صلى الله عليه وسلم - مناطة بالخليفة
إذ لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم
وهذا يعني أن النظام السياسي هو النظام الذي يكون على الخليفة
وهو الخلافة، والخليفة هو الذي يسوس أمر الناس على مقتضى الشرع
، لأنه قائم في مقام الأنبياء والأنبياء يسوسون الدنيا بالدين.
هذا وقد كثر في السنة استعمال لفظ (خليفة)
للقائم على رأس الدولة الإسلامية
. 2-قوله صلى الله عليه وسلم :
" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..."
الحديث.معروف عند الجميع
الا هم طبعا واذا عرفوه
عرفوه رسما فقط
اعوذ بالله منهم
3-قوله صلى الله عليه وسلم :
" إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما "
إسناده حسن رجاله ثقات عدا أحمد بن سلمان النجاد وهو صدوق حسن الحديث.
و حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَالْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍالْخُدْرِيِّ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُواالْآخَرَ مِنْهُمَا
صحيح مسلم بشرح النووي
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِر مِنْهُمَا )
هَذَا مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَنْدَفِع إِلَّا بِقَتْلِهِ ,وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاح هَذَا فِي الْأَبْوَاب السَّابِقَة . وَفِيهِأَنَّهُ لَا يَجُوز عَقْدهَا لِخَلِيفَتَيْنِ , وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًاالْإِجْمَاع فِيهِ , وَاحْتِمَال إِمَام الْحَرَمَيْنِ .
. 4-قوله صلى الله عليه وسلم :
" لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة
أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ".
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن حصين عن جابر بن سمرة
قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول
وحدثنا رفاعة بن الهيثم الواسطي واللفظ له حدثنا خالد
يعني بن عبد الله الطحان عن حصين عن جابر بن سمرة
قال دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم
فسمعته يقول
إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة
قال ثم تكلم بكلام خفي علي
قال فقلت لأبي ما قال قال كلهم من قريش
5-قوله صلى الله عليه وسلم :
" يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده"
. 6-قوله صلى الله عليه وسلم :
" ما بعث الله نبي ولا استخلف خليفة إلا كانت له بطانتان..."
الحديث.
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت في هذا المعنى،
وقد ورد أيضاً لفظ (إمام) ليدل على ما دل عليه لفظ (خليفة)
فمن ذلك:
1-قوله صلى الله عليه وسلم :
"ومن بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه
فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر".
2-وفي الحديث حذيفة:
كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير،
وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني وفيه
"فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها...
قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك
؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم..."
الحديث
. 3-قوله صلى الله عليه وسلم :
" إنما الإمام جُنَّة يقاتل من ورائه، ويتقى به
فإن أمر بتقوى الله وعدل كان له بذلك أجر
وإن أمر بغيره كان عليه منه".
4-قوله صلى الله عليه وسلم :
"ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته،
فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته..."
الحديث. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الباب.
وبما تقدم يعلم أيضاً أن لفظ (خليفة)
ليس مما استحدثه المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما يزعم بعض الكاتبين.
وإذا كانت تلك النصوص السابقة قد تناولت اسم القائم على ذلك النظام،
فإن نصوصاً أخرى قد حددت اسم النظام وشكله، منها:
1-قوله صلى الله عليه وسلم :
"خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء"
. 2-قوله صلى الله عليه وسلم :
" تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله
تبارك وتعالى إذا شاء أن يرفعها،
ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله
أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عضوضاً..."
الحديث،
وغير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الشأن.
فهذه النصوص التي أوردناها
–وهي قليل من كثير-
تتحدث عن النظام السياسي في الإسلام،
وتجعل له خصائصه المميزة، وتحدد له مفرداته ومصطلحاته الخاصة به؛
ليصبح لفظ (الخلافة) علماً على النظام السياسي في الإسلام
وإذا كان ذلك التحديد الذي ذكرناه إنما هو تحديد على مستوى (النظرية)
فهيا بنا لننظر تحديد النظام السياسي على مستوى الواقع الفعلي.
ثانياً: الواقع الفعلي في عصر الرسالة،
ودلالته على مجيء الإسلام بنظام سياسي بيِّن مفصل: فنقول :
من الحقائق التي لا يستطيع أحد أن ينكرها أنه على إثر ظهور
الدعوة الإسلامية تكوّن مجتمع جديد له ذاتية مستقلة تميزه عن غيره
يعترف بقانون واحد، وتسير حياته وفقاً لنظام واحد،
ويهدف إلى غايات مشتركة،
وبين أفراده وشائج قوية من الجنس واللغة والدين،
والشعور العام بالتضامن، ومثل هذا المجتمع الذي تتوفر فيه تلك العناصر
، هو الذي يوصف بأنه سياسي، أو هو الذي يقال عنه إنه دولة فإنه
لا يوجد أي تعريف لها غير أن تجتمع هذه الصفات كلها التي ذكرنا في مجتمع ما.
وحينئذ نتوجه بالسؤال التالي: هل أقام الإسلام دولة؟
فسيقولون: نعم –
وخاصة أن الذين نناقشهم هنا ممن يقولون بأن الإسلام دين ودولة،
أو أن الإسلام لا يفصل بين الدين والدولة-.
فنقول ترتيباً على ذلك: وهل كان لهذه الدولة حاكم يحكمها ويسوس الناس؛
فيسير أمور الدولة الداخلية والخارجية، ويقيم الحق بين الناس،
وينشر بينهم الأمن، ويقسم بينهم الأموال التي أفاءها الله عليهم، ويعاقبالخارجين عن الشرع؛ فيقيم الحدود ويجاهد الأعداء، ويراسل حكام الدولالأخرى، ويعقد معهم الصلح أو الهدنة، ويسير الجيوش ويعين لها قيادتها،ويرسل الأمراء من قبله إلى البلاد أو النواحي الخاضعة لدولته، وغير ذلك منالأمور التي يباشرها حكام الدولة؟ فسيقولون –ولابد- نعم. فنقول:-إكمالاً لما سبق- ومن أول حاكم لهذه الدولة التي أقامها؟ فسيقولون: هومحمد بن عبدالله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي أرسله الله بالهدىودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فنقول: ومن الذي خلفه فيحكمها؟ فسيقولون: أصحابه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم،وهم الخلفاء الراشدون الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم :
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..."
الحديث، وهم أيضاً من المبشرين بالجنة.
وحينئذ نتقدم بهذا السؤال: هل بقيت هذه المبادئ –
التي تزعمون أن الإسلام جاء بها ولم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته- على إجمالها أو إطلاقها -بغير بيان ولا تفصيل؟!
أم أنها وجدت السبيل إلى التنفيذ في أرض الواقع فترجمت تلك المبادئالمجملة غير المفصلة عندكم إلى خطوات تفصيلية تنفيذية في واقع حي مشاهد؟!
ولابد من أن يقولوا: نعم؛ لأنه لا بديل لتلك الإجابة إلا القول بأن
الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
من بعده تركوا هذه المبادئ التي جاء بها الإسلام ولم يلتزموا بها،
وأتوا بالتفصيلات الخاصة بنظام حكمهم بعيداً أو مخالفاً لتلك المبادئ،
وهذا ما لا يجرؤ –بحمد الله- أحد ممن ينتسب إلى الإسلام
ولم يجهر بعلمانيته أو كفره على التصريح به. فإذا كان الجواب: نعم،
وهو كذلك، فحينئذ نكمل السؤال السابق بالسؤال التالي:
إذا كانت تلك المبادئ العامة،
قد ترجمت إلى واقع حي مشاهد بما فيه من التفصيل والتحديد فما مدى حجة هذهالترجمة وإلزامها؟! أوليس عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاءالراشدين المهديين من بعده بهذه المبادئ يُمثل النظام السياسي الإسلاميالذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، أليست هذه السنةالعملية ملزمة لنا شرعاً معاشر المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلامديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً مبلغاً عن الله دينه؟. ألم يبعث الله رسوله ليبين للناس ما نُزل إليهم من ربهم
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }
[النحل:44]
وإذا كانت تلك المبادئ منـزلة من عند الله،
ألا يكون من واجب الرسول صلى الله عليه وسلم بيان هذه المبادئ
بنص الآية السابقة ؟، وهل يمكن أن يكون هناك بيان أتم وأكمل
وأوضح للمبادئ العامة من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!
ثم نقول بعد ذلك: ألا يكفي هذا الوجه من الكلام في الرد
على أولئك الذين زعموا كذباً وضلالاً وجهلاً وبهتاناً أن الإسلام
لم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته
ثالثاً : تصانيف العلماء في أحكام النظام السياسي
ودلالتها على مجيء الإسلام بنظام سياسي واضح:
لقد صنف أهل العلم من المسلمين تصانيف كثيرة في النظام السياسي الإسلامي،
يبدؤونها بتعريف (الخلافة) ثم ينطلقون من ذلك إلى الحديث
عن أمور كثيرة جداً متعلقة بها مثل: الحديث عن شروط من يتولى الخلافة،
وكيفية توليته، وواجباته تجاه الأمة، وحقوقه على الأمة،
وعن مدة بقائه في منصبه، وعن موجبات عزله، وعن كيفية عزله،
وصفات من يوليه، وصفات من يعزله،
وكذلك تحدثوا عن مقاصد الخلافة والغاية منها، و
عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم،
وعن حدود الطاعة إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة المتعلقة بنظام الخلافة ،
التي تزخر بها مصنفات أهل العلم ؛ وهي كثيرة مطبوعة بين أيدينا بحمد الله.
وهنا نسأل ونقول: هل الذين عرفوا (الخلافة)
من أهل العلم، عرَّفوا شيئاً غير محدد لا وجود له ؟ وهل يمكن وضع تعريفلشيء هو في نفسه غير محدد؟! أم أن التعريف يوضع أصلاً لتمييز المعرَّف عنغيره وتحديده، بحيث لا يدخل تحته شيء هو ليس منه، ولا يخرج عنه شيء هومنه؟ ونقولأيضاً: هل يمكن أن يكون هذا الكلام الكثير في تلك التفريعات والتفصيلاتالتي ذكرنا طرفاً منها حديثاً عن شيء غير محدد أو لا وجود له؟! ثم نقول:وهل يمكن أن يقوم في فهم رجل عاقل أن يكتب كاتبٌ بمثل تلك الدقة والتفاصيلالتي ذُكرت عن شيء هو عنده وفي فهمه غير محدد أو غير موجود؟!والأسئلة ليست في حاجة إلى الجواب، فهي تجيب عن نفسها، والذي يتحصل لنا من الكلام في هذه الجزئية:
أن كل العلماء الذين كتبوا عن الخلافة في الإسلام إنما كانوا يكتبون عنأمر محدد عندهم له وجود متميز، وله أحكام مفصلة تخصه، ومن هنا فإن القولبأن الإسلام
لم يأت بنظام سياسي وإنما أتى فقط بمبادئ عامة في السياسة، هو قول محدث لم يقل به أحد من أهل العلم المتقدمين ) . ( يا للعجب! نظام سياسي متكامل
يُكلف المسلمون بإقامته ويحاسبون عليه ويأثمون إن هم قصروا فيه، ثم لاتقدم لهم الشريعة التي نزلت تبياناً لكل شيء أية أحكام تفصيلية تتعلق به ؟!
ألا ترون في مثل هذا التكليف أنه تكليف بما هو فوق الطاقة البشرية،
ألم يقل الله تبارك وتعالى:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا }
[البقرة:286]
؟! أيكون في وسع المسلم –مهما أوتي من علم-
أن يقيم نظاماً سياسياً إسلامياً بكل تفاصيله انطلاقاً من القول بأنالإسلام قد أتى بالشورى والعدالة والحرية والمساواة ومسئولية الحاكم وكفى!وماذا تغني عنه مثل هذه الكلمات، وفي أي شيء تنفعه، وكيف يضمن المسلم أنالتفصيلات
التي وضعها تحت مبدأ (العدالة) مثلاً تفصيلات صحيحة مقبولة شرعًا ،
إذا لم يكن عنده من شيئ إلا أن الإسلام قد جاء بمبدأ العدالة ؟ أو أنالإسلام قد أقر مبدأ العدالة أو نحو هذه الكلمات التي لا تسمن في هذاالمجال ولا تغني ؟ وما المرجع الذي يرجع إليه المسلمون إذا اختلفوا فيالأحكام التفصيلية التي تتدرج تحت مبدأ العدالة مثلاً، إذا لم تكن الشريعةقد أتت بالأدلة الدالة على هذه الأحكام؟! ومن الذي يحكم في هذه الحالة،بأن هذه التفصيلات صحيحة مقبولة شرعاً، وتلك باطلة مرفوضة شرعاً؟ وكيفيحكم؟ وعلى أي دليل يستند؟! إن مثل هذا القول ليس له من نتيجة سوى نشرالفوضى الفكرية بين المسلمين، وجعل النظام السياسي محكوماً بالمصالحالعاجلة والعقول والإفهام القاصرة دون الاحتكام إلى الإسلام وشريعته؛ إذهل يستطيع المرء أن يقوم بأداء
الفريضة على وجه صحيح من غير خلل، إذا كانت تلك الفريضة غير محددة،
وإنما جاءت على سبيل المبدأ فقط؟! وإذا كان من حجتكم على أن الإسلام
ترك تحديد النظام السياسي فلم يأت بنظام محدد:
أن الأنظمة السياسية دائماً تتطور،
فهل كل التفاصيل المتعلقة بالنظام السياسي في الإسلام كبيرها وصغيرها
متغيرة متبدلة متطورة، بحيث
لا يكون فيها شيء ثابت على مر الأزمان
حتى يمكن أن يُدَّعى أنه لا توجد –في التفاصيل-
نصوص ملزمة على مر الأزمان ؟
ولو فرض أن التفاصيل كما ادعيتم لم تأت بها نصوص شرعية
- وهو فرض غير صحيح-
فهل فعلاً تركت الشريعة للمسلمين حرية الاختيار لتفاصيل النظام السياسي
، ولم تضع على هذا الاختيار من قيود سوى:
أن توائم تلك التفاصيل العصور المختلفة والظروف المختلفة،
وأن الشريعة أحالت في التفاصيل على الخبرة والتجارب البشرية؟!
أقول
ولو فرض أن كل ما ذكرتموه في هذا المجال صحيح لوجب عليكم
أن تغلقوا ملف (النظام السياسي في الإسلام)
وأن تنفضوا أيديكم من الكتابة عنه، لأنه حسب دعواكم:
أن الإسلام لم يتعرض للتفاصيل وإنما جاء بمبادئ عامة،
وأن هذه المبادئ لا ينفرد بها المسلمون بل تقر بها جميع الأمم،
وأن التفاصيل متروكة للمسلمين يضعونها حسب ما يرون فيه المصلحة،
معتمدين في ذلك على الخبرة والتجارب البشرية،
فإن كان ذلك صحيحاً فما معنى الحديث عن (
النظام السياسي الإسلامي)
وما علاقة الإسلام بذلك النظام القائم على ذلك التصور المتقدم؟!
إنني أرى أنه لا مفر أمام هؤلاء من أحد أمرين : أ-إماالإصرار على تلك المزاعم –التي أبطلناها- وحينئذ فلابد لهؤلاء من أن يكفواعن الحديث في (النظام السياسي في الإسلام) لأنه لا وجود له حقيقة في ظلتلك المزاعم، ولن يكون له وجود. ب-وإماالإقرار حقاً بأنه يوجد نظام سياسي إسلامي محدد، له قواعده وتفصيلاته التيوردت في نصوص الكتاب والسنة، وحينئذ فلابد لهم من أن يكفوا عن ترديدالمزاعم الباطلة من مثل قولهم: إن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد وإنماأتى فقط ببعض المبادئ السياسية )
. ( ثم لا يمتنع بعد ذلك أن تُترك بعض الطرق التنفيذية أو الكيفيات
لتحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع؛
أن تُترك مطلقة من غير تقييد للمسلمين بطريق عملي معين يجب على المسلمين
–في كل عصر ومصر- سلوكه دون ما سواه؛
وذلك أن الطرق التنفيذية هي وسائل لتحقيق الغايات، والوسائل لا ترادلذاتها، وإنما تراد لما يترتب عليها، فربما لو أُلزم المسلمون في مشارقالأرض ومغاربها وعلى مدى الزمن بطريق علمي واحد أو بوسيلة واحدة لتعسرعليهم ذلك ووجدوا فيه من الحرج والمشقة الشيء الكثير ، والله تبارك وتعالىيريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، فهذا الوجه جائز حدوثه، ولا محذورفيه شرعاً، كما أنه لا مناقضة فيه لما أسلفنا من القول بأن النظام السياسيفي الإسلام نظام محدد وليس مجرد مبادئ. ولايمتنع أيضاً أن تأتي النصوص الشرعية ببيان بعض الطرق التنفيذية أوالكيفيات أو الوسائل لتنفيذ أو تحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع، ويكونذلك البيان على سبيل الإرشاد والتوجيه وليس على سبيل إلزام المسلمين بهدون ما سواه من الوسائل الأخرى التي تحقق المقصود نفسه بدون مخالفاتشرعية. ولايمتنع أيضاً أن تأتي النصوص الشرعية ببيان الكيفية أو الوسيلة التي ينبغياتباعها في تحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع، ويكون ذلك البيان علىسبيل الإلزام؛ بحيث يجب على المسلمين سلوك ذاك الطريق واتباع تلك الوسيلة،ويحرم عليهم مخالفتها واتباع غيرها )
. مناقشة القول بعدم وجود نظام سياسي للإسلام :
( 1-إن هذا القول يصب في اتجاه الكارهين للنظام السياسي الإسلامي،
وتفصيل ذلك أنه متى قيل بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي،
وأنه لم يعتن ببيان أحكام تفصيلات النظام السياسي أو جزئياته،
وأن كل ما جاء فيه في هذا الصدد لم يزد عن كونه تقريراً لبعض المبادئ السياسية،
فإنه يمكن –لاسيما مع المخادعة-
تمرير النظم السياسية العلمانية تحت زعم تحقيق تلك المبادئ والمحافظة عليها
، أو على الأقل عدم مخالفتها،
لاسيما أن المبادئ المجردة تختلف وجهات النظر في تفصيلاتها اختلافاًحاداً، يصل إلى حد التناقض، وذلك أنه في تلك الحالة ليس هناك مرجع أعلىيمكن الرجوع إليه لمعرفة حقيقة تلك المبادئ وتفاصيلها. فهذهشعارات الحرية، والعدالة، والمساواة، وأمثال تلك الشعارات ترفعها الدولجميعها: من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويُنص عليها في دساتيرهاوقوانينها، ومع ذلك فبينها من الخلاف في الفهم والتطبيق ما بين المشرقوالمغرب من البعد وعدم اللقاء. وإننا لنرى الآن تحت شعار
"مبدأ الشورى"
المحاولات العديدة لإدخال النظام البرلماني الغربي وإضافته إلى الإسلام،بأصوله العقدية وتفصيلاته التطبيقية كلها: من مثل القول بأن "السيادةللشعب" وأن "الأمة مصدر السلطات"، وذلك على أنه تطبيق مفصل للشورى التيجاء بها القرآن
– زعموا- على سبيل المبدأ !! وتحت شعار "مبدأ الحرية"
يجري التشكيك في فريضة الجهاد، وفي قتل المرتد، وفي محاربة المرتدين
؛ لأن هذه الأمور –بزعمهم- تخالف مبدأ الحرية.
وتحت شعار "مبدأ المساواة" يصار إلى القول بأن الكفار والمشركين
من اليهود والنصارى وغيرهم ساكني دولة المسلمين،
لهم الحق في المشاركة في الحياة السياسية من حيث تولي الوظائف العامة
التي يكون لهم فيها قيادة واستطالة على المسلمين،
ويؤخذ برأيهم –كالمسلمين تماماً- في اختيار الحكام في الدولة الإسلامية.
وتحت شعار المبدأ نفسه يتم إخراج المرأة من بيتها لتكون عضواً
بمجلس الشورى، أو لتتولى منصباً وزارياً،
بل ويجعلون لها الحق أيضاً في أن تتولى رئاسة الدولة في بلاد المسلمين.
وهكذا تحت مظلة المبادئ التي يدَّعون، يُهدم النظام السياسي،
بل يُهدم الإسلام كله، وذلك قرة عين العلمانيين، لا أقر الله عيونهم )
. ( 2- القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات هو في نفسه قول
متناقض وغير مستقر. وذلك أن هذا القول لابد أن ينتهي إلى أحد قولين
أ- إما القول بأن الإسلام لا تعلق له بالسياسية أصلاً كما يقوله العلمانيون المجاهرون.
ب- وإما القول بأن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة. وبيان ذلك يتضح من خلال كلامنا التالي: إن المبادئ التي يذكرها هؤلاء "العدالة، الحرية، المساواة، الإخاء" إلى غير ذلك،
تقر بها جميع الأمم، وتدعيها كل الدول، فما من دولة على وجه الأرض
إلا وهي تدَّعي الالتزام بتلك المبادئ –
وإن كانت كل دولة تقدم مفهومها الخاص بها لتلك المبادئ
كما ذكرنا ذلك من قبل- ففي أي شيء يفترق الإسلام في هذا المجال
في تصوركم عن تلك الأمم، إن كان كل ما جاء به فيه تقرّ به
وتدعيه أيضاً دول الكفر ؟ وما مرادكم بأن الإسلام
أتى بمبادئ عامة ولم يتعرض للتفاصيل والجزئيات؟
هل تريدون بذلك: أن الإسلام أتى بهذه المبادئ مجملة،
وأرشد إليها وطلب العلم بها، ثم لم يجعل للمسلمين طريقاً
إلى معرفة ما يتعلق بها من تفصيلات إلا ما تهديه إليه عقولهم،
أو ما يقلدون فيه غيرهم من أمم الكفر؟
إذا كنتم تقصدون ذلك فانزعوا عن هذه المبادئ
وما تعلق بها من تفصيلات الصفة "الإسلامية"
لأنه إذا كانت المبادئ مشتركة بين جميع الأمم، وكلهم يقر بها،
وكانت تفصيلات تلك المبادئ هي من ثمرات العقول أو تقليد الكفار،
فلا معنى لأن تعلق عليها لافتة "الإسلام"
إذ لا تصدق نسبة هذا النظام –مبادئ وتفصيلات- إلى الإسلام،
إلا كما تصدق نسبته بالدرجة نفسها إلى غير الإسلام،
بل نسبته إلى غير الإسلام أكثر؛ لأن الإسلام وإن اشتراك مع الأنظمة
غير الإسلامية في المبادئ فإن الأخيرة زادت عليه-زعموا-
ببيان التفصيلات، وحينئذ تكون النسبة إلى غير الإسلام أصدق وأدق !!
بل مضمون هذا الكلام –بلا أدنى ارتياب- هو أن الإسلام لا تعلق له بالسياسة أصلاً. ومنهنا يتبين أن صفة "الإسلامية" التي يريدون سحبها على تلك الأنظمةالمستقدمة والمجلوبة من بلاد الكفر، بزعم محافظتها على تلك المبادئ أمرباطل وغير صحيح. وإن كنتم تريدون بذلك القول أن الإسلام وإن لم يتعرض للتفاصيل والجزئيات،
لكن حكم هذه التفاصيل والجزئيات التي لم ينص عليها صراحة،
يمكن أن يستنبط من هذه المبادئ العامة بطرق الاستنباط المعروفة
والمدونة في كتب أصول الفقه، فإننا نقول لكم:
إن كان هذا مرادكم فقد أحسنتم من هذا الوجه، ولكنكم أسأتم من أوجه أُخر: أماالإحسان: فمن حيث ذكركم أن التفاصيل والجزئيات حكمها موجود في أدلةالشريعة، ويمكن استخراجها واستنباطها بطرق الاستنباط المعروفة في كتب أصولالفقه، وبالتالي تكون النصوص الشرعية وافية بجميع الأحكام التي يحتاجإليها المسلمون في نظامهم السياسي –أو غيره- سواء ذكرت تلك الأحكام بطريقالنص عليها مباشرة، أو ذكرت بطريق الاستنباط من المنصوص عليه.
[/size]الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
قولهم: ( ليس في الإسلام نظام سياسي ) !
( يزعم الفكر العلماني أنه ليس في الإسلام نظام سياسي
محدد ينبغي الالتزام به، وغاية ما هناك وجود بعض المبادئ العامة في مجال السياسة
ولست أعرف بالضبط متى ظهرت هذه المقولة
ولا أول من أشاعها على وجه التحديد
وإن كانت جذورها تمتد إلى كتاب (الإسلام وأصول الحكم)
وذلك أنه قال عن
[size=25]نظام الحكم زمن النبي صلى الله عليه وسلم :
إنه كان موضع غموض وإبهام وخفاء ولبس )
ذكر الأدلة على مجيء الإسلام بنظام سياسي :
لقد جاء الإسلام بنظام سياسي، وطلب من المسلمين الالتزام به
دون ما سواه من الأنظمة السياسية
وعلى ذلك أدلة متعددة نوجزها فيما يلي:
أولاً :
النصوص الشرعية ودلالتها على مجيء الإسلام بنظام سياسي محدد:
جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ببيان نظام الحكم
(النظام السياسي) الذي ينبغي إتباعه والالتزام به
فبينت غايته وطبيعته وشكله، وأصل السلطة فيه،
ومصدر الإلزام به، وصفات القائمين عليه،
وواجباتهم وحقوقهم، ومكانة الأمة فيه،
إلى غير ذلك من الأمور التي جاءت بها النصوص الشرعية أو دلت عليها،
كما أعطته مصطلحاته الخاصة به
التي تميزه عن غيره بحيث لا يشبه في ذلك
نظاماً بشرياً سبقه،
ولا يشبهه نظام بشري جاء بعده،
فهو في ذلك متميز عن السابق واللاحق.
والنظام السياسي في الإسلام أو نظام الحكم هو الخلافة،
والقائم عليه هو الخليفة، وقد يسمى الإمام، والأمير، وأمير المؤمنين،
ومن النصوص التي جاءت في ذلك قوله تعالى: {
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً }
[البقرة:30]
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية:
"وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة
ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه فهو يقطع تنازعهم
وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش
إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى}
[ص:26]
. فقوله تعالى
{احْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
( بعد قوله )
إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً }
( دليل على أن المراد بالخليفة هو الحاكم الذي يحكم بين الناس
وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:
"هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق
المنـزل من عنده تبارك وتعالى،
ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله"
وهذا يعني أيضاً أن المراد بالخليفة هو ولي الأمر أو الحاكم
الذي يحكم بين الناس. وقد ذكر ابن كثير أيضاً –في تفسير هذه الآية-
أن الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين،
سأل أبا زرعة أحد العلماء في زمانه قائلاً له:
أيحاسب الخليفة؟ فرد عليه أبو زرعة وقال له:
إن الله قد جمع لداود النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه وتلا عليه قوله:
{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ
وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
الآية. وفي قوله:
" إن الله جمع لداود النبوة والخلافة"
تأييد لما ذكرناه من المراد بلفظ الخليفة في الآيات السابقة.
أما الأحاديث فجاءت منها طائفة كثيرة منها :
1- قوله صلى الله عليه وسلم :
" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء
كلما هلك نبي خلفه نبي
وإنه لا نبي بعدي
وسيكون خلفاء فيكثرون.
قالوا: فما تأمرنا؟
قال:ا فوا ببيعة الأول
أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
ففي هذا الحديث أن سياسة أمر الناس كانت في بني إسرائيل مناطة بالأنبياء
وأما في شريعتنا فإن سياسة أمر الناس –
بعد الرسول صلى الله عليه وسلم - مناطة بالخليفة
إذ لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم
وهذا يعني أن النظام السياسي هو النظام الذي يكون على الخليفة
وهو الخلافة، والخليفة هو الذي يسوس أمر الناس على مقتضى الشرع
، لأنه قائم في مقام الأنبياء والأنبياء يسوسون الدنيا بالدين.
هذا وقد كثر في السنة استعمال لفظ (خليفة)
للقائم على رأس الدولة الإسلامية
. 2-قوله صلى الله عليه وسلم :
" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..."
الحديث.معروف عند الجميع
الا هم طبعا واذا عرفوه
عرفوه رسما فقط
اعوذ بالله منهم
3-قوله صلى الله عليه وسلم :
" إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما "
إسناده حسن رجاله ثقات عدا أحمد بن سلمان النجاد وهو صدوق حسن الحديث.
و حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَالْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍالْخُدْرِيِّ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُواالْآخَرَ مِنْهُمَا
صحيح مسلم بشرح النووي
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِر مِنْهُمَا )
هَذَا مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَنْدَفِع إِلَّا بِقَتْلِهِ ,وَقَدْ سَبَقَ إِيضَاح هَذَا فِي الْأَبْوَاب السَّابِقَة . وَفِيهِأَنَّهُ لَا يَجُوز عَقْدهَا لِخَلِيفَتَيْنِ , وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًاالْإِجْمَاع فِيهِ , وَاحْتِمَال إِمَام الْحَرَمَيْنِ .
. 4-قوله صلى الله عليه وسلم :
" لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة
أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ".
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن حصين عن جابر بن سمرة
قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول
وحدثنا رفاعة بن الهيثم الواسطي واللفظ له حدثنا خالد
يعني بن عبد الله الطحان عن حصين عن جابر بن سمرة
قال دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم
فسمعته يقول
إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة
قال ثم تكلم بكلام خفي علي
قال فقلت لأبي ما قال قال كلهم من قريش
5-قوله صلى الله عليه وسلم :
" يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده"
. 6-قوله صلى الله عليه وسلم :
" ما بعث الله نبي ولا استخلف خليفة إلا كانت له بطانتان..."
الحديث.
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي وردت في هذا المعنى،
وقد ورد أيضاً لفظ (إمام) ليدل على ما دل عليه لفظ (خليفة)
فمن ذلك:
1-قوله صلى الله عليه وسلم :
"ومن بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه
فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر".
2-وفي الحديث حذيفة:
كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير،
وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني وفيه
"فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟
قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها...
قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك
؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم..."
الحديث
. 3-قوله صلى الله عليه وسلم :
" إنما الإمام جُنَّة يقاتل من ورائه، ويتقى به
فإن أمر بتقوى الله وعدل كان له بذلك أجر
وإن أمر بغيره كان عليه منه".
4-قوله صلى الله عليه وسلم :
"ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته،
فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته..."
الحديث. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الباب.
وبما تقدم يعلم أيضاً أن لفظ (خليفة)
ليس مما استحدثه المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
كما يزعم بعض الكاتبين.
وإذا كانت تلك النصوص السابقة قد تناولت اسم القائم على ذلك النظام،
فإن نصوصاً أخرى قد حددت اسم النظام وشكله، منها:
1-قوله صلى الله عليه وسلم :
"خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء"
. 2-قوله صلى الله عليه وسلم :
" تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله
تبارك وتعالى إذا شاء أن يرفعها،
ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله
أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عضوضاً..."
الحديث،
وغير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الشأن.
فهذه النصوص التي أوردناها
–وهي قليل من كثير-
تتحدث عن النظام السياسي في الإسلام،
وتجعل له خصائصه المميزة، وتحدد له مفرداته ومصطلحاته الخاصة به؛
ليصبح لفظ (الخلافة) علماً على النظام السياسي في الإسلام
وإذا كان ذلك التحديد الذي ذكرناه إنما هو تحديد على مستوى (النظرية)
فهيا بنا لننظر تحديد النظام السياسي على مستوى الواقع الفعلي.
ثانياً: الواقع الفعلي في عصر الرسالة،
ودلالته على مجيء الإسلام بنظام سياسي بيِّن مفصل: فنقول :
من الحقائق التي لا يستطيع أحد أن ينكرها أنه على إثر ظهور
الدعوة الإسلامية تكوّن مجتمع جديد له ذاتية مستقلة تميزه عن غيره
يعترف بقانون واحد، وتسير حياته وفقاً لنظام واحد،
ويهدف إلى غايات مشتركة،
وبين أفراده وشائج قوية من الجنس واللغة والدين،
والشعور العام بالتضامن، ومثل هذا المجتمع الذي تتوفر فيه تلك العناصر
، هو الذي يوصف بأنه سياسي، أو هو الذي يقال عنه إنه دولة فإنه
لا يوجد أي تعريف لها غير أن تجتمع هذه الصفات كلها التي ذكرنا في مجتمع ما.
وحينئذ نتوجه بالسؤال التالي: هل أقام الإسلام دولة؟
فسيقولون: نعم –
وخاصة أن الذين نناقشهم هنا ممن يقولون بأن الإسلام دين ودولة،
أو أن الإسلام لا يفصل بين الدين والدولة-.
فنقول ترتيباً على ذلك: وهل كان لهذه الدولة حاكم يحكمها ويسوس الناس؛
فيسير أمور الدولة الداخلية والخارجية، ويقيم الحق بين الناس،
وينشر بينهم الأمن، ويقسم بينهم الأموال التي أفاءها الله عليهم، ويعاقبالخارجين عن الشرع؛ فيقيم الحدود ويجاهد الأعداء، ويراسل حكام الدولالأخرى، ويعقد معهم الصلح أو الهدنة، ويسير الجيوش ويعين لها قيادتها،ويرسل الأمراء من قبله إلى البلاد أو النواحي الخاضعة لدولته، وغير ذلك منالأمور التي يباشرها حكام الدولة؟ فسيقولون –ولابد- نعم. فنقول:-إكمالاً لما سبق- ومن أول حاكم لهذه الدولة التي أقامها؟ فسيقولون: هومحمد بن عبدالله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي أرسله الله بالهدىودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فنقول: ومن الذي خلفه فيحكمها؟ فسيقولون: أصحابه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم،وهم الخلفاء الراشدون الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم :
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين..."
الحديث، وهم أيضاً من المبشرين بالجنة.
وحينئذ نتقدم بهذا السؤال: هل بقيت هذه المبادئ –
التي تزعمون أن الإسلام جاء بها ولم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته- على إجمالها أو إطلاقها -بغير بيان ولا تفصيل؟!
أم أنها وجدت السبيل إلى التنفيذ في أرض الواقع فترجمت تلك المبادئالمجملة غير المفصلة عندكم إلى خطوات تفصيلية تنفيذية في واقع حي مشاهد؟!
ولابد من أن يقولوا: نعم؛ لأنه لا بديل لتلك الإجابة إلا القول بأن
الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
من بعده تركوا هذه المبادئ التي جاء بها الإسلام ولم يلتزموا بها،
وأتوا بالتفصيلات الخاصة بنظام حكمهم بعيداً أو مخالفاً لتلك المبادئ،
وهذا ما لا يجرؤ –بحمد الله- أحد ممن ينتسب إلى الإسلام
ولم يجهر بعلمانيته أو كفره على التصريح به. فإذا كان الجواب: نعم،
وهو كذلك، فحينئذ نكمل السؤال السابق بالسؤال التالي:
إذا كانت تلك المبادئ العامة،
قد ترجمت إلى واقع حي مشاهد بما فيه من التفصيل والتحديد فما مدى حجة هذهالترجمة وإلزامها؟! أوليس عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاءالراشدين المهديين من بعده بهذه المبادئ يُمثل النظام السياسي الإسلاميالذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، أليست هذه السنةالعملية ملزمة لنا شرعاً معاشر المسلمين الذين رضوا بالله رباً وبالإسلامديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً مبلغاً عن الله دينه؟. ألم يبعث الله رسوله ليبين للناس ما نُزل إليهم من ربهم
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }
[النحل:44]
وإذا كانت تلك المبادئ منـزلة من عند الله،
ألا يكون من واجب الرسول صلى الله عليه وسلم بيان هذه المبادئ
بنص الآية السابقة ؟، وهل يمكن أن يكون هناك بيان أتم وأكمل
وأوضح للمبادئ العامة من بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!
ثم نقول بعد ذلك: ألا يكفي هذا الوجه من الكلام في الرد
على أولئك الذين زعموا كذباً وضلالاً وجهلاً وبهتاناً أن الإسلام
لم يأت بنظام سياسي محدد ولم يتعرض لتفصيلاته
ثالثاً : تصانيف العلماء في أحكام النظام السياسي
ودلالتها على مجيء الإسلام بنظام سياسي واضح:
لقد صنف أهل العلم من المسلمين تصانيف كثيرة في النظام السياسي الإسلامي،
يبدؤونها بتعريف (الخلافة) ثم ينطلقون من ذلك إلى الحديث
عن أمور كثيرة جداً متعلقة بها مثل: الحديث عن شروط من يتولى الخلافة،
وكيفية توليته، وواجباته تجاه الأمة، وحقوقه على الأمة،
وعن مدة بقائه في منصبه، وعن موجبات عزله، وعن كيفية عزله،
وصفات من يوليه، وصفات من يعزله،
وكذلك تحدثوا عن مقاصد الخلافة والغاية منها، و
عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم،
وعن حدود الطاعة إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة المتعلقة بنظام الخلافة ،
التي تزخر بها مصنفات أهل العلم ؛ وهي كثيرة مطبوعة بين أيدينا بحمد الله.
وهنا نسأل ونقول: هل الذين عرفوا (الخلافة)
من أهل العلم، عرَّفوا شيئاً غير محدد لا وجود له ؟ وهل يمكن وضع تعريفلشيء هو في نفسه غير محدد؟! أم أن التعريف يوضع أصلاً لتمييز المعرَّف عنغيره وتحديده، بحيث لا يدخل تحته شيء هو ليس منه، ولا يخرج عنه شيء هومنه؟ ونقولأيضاً: هل يمكن أن يكون هذا الكلام الكثير في تلك التفريعات والتفصيلاتالتي ذكرنا طرفاً منها حديثاً عن شيء غير محدد أو لا وجود له؟! ثم نقول:وهل يمكن أن يقوم في فهم رجل عاقل أن يكتب كاتبٌ بمثل تلك الدقة والتفاصيلالتي ذُكرت عن شيء هو عنده وفي فهمه غير محدد أو غير موجود؟!والأسئلة ليست في حاجة إلى الجواب، فهي تجيب عن نفسها، والذي يتحصل لنا من الكلام في هذه الجزئية:
أن كل العلماء الذين كتبوا عن الخلافة في الإسلام إنما كانوا يكتبون عنأمر محدد عندهم له وجود متميز، وله أحكام مفصلة تخصه، ومن هنا فإن القولبأن الإسلام
لم يأت بنظام سياسي وإنما أتى فقط بمبادئ عامة في السياسة، هو قول محدث لم يقل به أحد من أهل العلم المتقدمين ) . ( يا للعجب! نظام سياسي متكامل
يُكلف المسلمون بإقامته ويحاسبون عليه ويأثمون إن هم قصروا فيه، ثم لاتقدم لهم الشريعة التي نزلت تبياناً لكل شيء أية أحكام تفصيلية تتعلق به ؟!
ألا ترون في مثل هذا التكليف أنه تكليف بما هو فوق الطاقة البشرية،
ألم يقل الله تبارك وتعالى:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا }
[البقرة:286]
؟! أيكون في وسع المسلم –مهما أوتي من علم-
أن يقيم نظاماً سياسياً إسلامياً بكل تفاصيله انطلاقاً من القول بأنالإسلام قد أتى بالشورى والعدالة والحرية والمساواة ومسئولية الحاكم وكفى!وماذا تغني عنه مثل هذه الكلمات، وفي أي شيء تنفعه، وكيف يضمن المسلم أنالتفصيلات
التي وضعها تحت مبدأ (العدالة) مثلاً تفصيلات صحيحة مقبولة شرعًا ،
إذا لم يكن عنده من شيئ إلا أن الإسلام قد جاء بمبدأ العدالة ؟ أو أنالإسلام قد أقر مبدأ العدالة أو نحو هذه الكلمات التي لا تسمن في هذاالمجال ولا تغني ؟ وما المرجع الذي يرجع إليه المسلمون إذا اختلفوا فيالأحكام التفصيلية التي تتدرج تحت مبدأ العدالة مثلاً، إذا لم تكن الشريعةقد أتت بالأدلة الدالة على هذه الأحكام؟! ومن الذي يحكم في هذه الحالة،بأن هذه التفصيلات صحيحة مقبولة شرعاً، وتلك باطلة مرفوضة شرعاً؟ وكيفيحكم؟ وعلى أي دليل يستند؟! إن مثل هذا القول ليس له من نتيجة سوى نشرالفوضى الفكرية بين المسلمين، وجعل النظام السياسي محكوماً بالمصالحالعاجلة والعقول والإفهام القاصرة دون الاحتكام إلى الإسلام وشريعته؛ إذهل يستطيع المرء أن يقوم بأداء
الفريضة على وجه صحيح من غير خلل، إذا كانت تلك الفريضة غير محددة،
وإنما جاءت على سبيل المبدأ فقط؟! وإذا كان من حجتكم على أن الإسلام
ترك تحديد النظام السياسي فلم يأت بنظام محدد:
أن الأنظمة السياسية دائماً تتطور،
فهل كل التفاصيل المتعلقة بالنظام السياسي في الإسلام كبيرها وصغيرها
متغيرة متبدلة متطورة، بحيث
لا يكون فيها شيء ثابت على مر الأزمان
حتى يمكن أن يُدَّعى أنه لا توجد –في التفاصيل-
نصوص ملزمة على مر الأزمان ؟
ولو فرض أن التفاصيل كما ادعيتم لم تأت بها نصوص شرعية
- وهو فرض غير صحيح-
فهل فعلاً تركت الشريعة للمسلمين حرية الاختيار لتفاصيل النظام السياسي
، ولم تضع على هذا الاختيار من قيود سوى:
أن توائم تلك التفاصيل العصور المختلفة والظروف المختلفة،
وأن الشريعة أحالت في التفاصيل على الخبرة والتجارب البشرية؟!
أقول
ولو فرض أن كل ما ذكرتموه في هذا المجال صحيح لوجب عليكم
أن تغلقوا ملف (النظام السياسي في الإسلام)
وأن تنفضوا أيديكم من الكتابة عنه، لأنه حسب دعواكم:
أن الإسلام لم يتعرض للتفاصيل وإنما جاء بمبادئ عامة،
وأن هذه المبادئ لا ينفرد بها المسلمون بل تقر بها جميع الأمم،
وأن التفاصيل متروكة للمسلمين يضعونها حسب ما يرون فيه المصلحة،
معتمدين في ذلك على الخبرة والتجارب البشرية،
فإن كان ذلك صحيحاً فما معنى الحديث عن (
النظام السياسي الإسلامي)
وما علاقة الإسلام بذلك النظام القائم على ذلك التصور المتقدم؟!
إنني أرى أنه لا مفر أمام هؤلاء من أحد أمرين : أ-إماالإصرار على تلك المزاعم –التي أبطلناها- وحينئذ فلابد لهؤلاء من أن يكفواعن الحديث في (النظام السياسي في الإسلام) لأنه لا وجود له حقيقة في ظلتلك المزاعم، ولن يكون له وجود. ب-وإماالإقرار حقاً بأنه يوجد نظام سياسي إسلامي محدد، له قواعده وتفصيلاته التيوردت في نصوص الكتاب والسنة، وحينئذ فلابد لهم من أن يكفوا عن ترديدالمزاعم الباطلة من مثل قولهم: إن الإسلام لم يأت بنظام سياسي محدد وإنماأتى فقط ببعض المبادئ السياسية )
. ( ثم لا يمتنع بعد ذلك أن تُترك بعض الطرق التنفيذية أو الكيفيات
لتحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع؛
أن تُترك مطلقة من غير تقييد للمسلمين بطريق عملي معين يجب على المسلمين
–في كل عصر ومصر- سلوكه دون ما سواه؛
وذلك أن الطرق التنفيذية هي وسائل لتحقيق الغايات، والوسائل لا ترادلذاتها، وإنما تراد لما يترتب عليها، فربما لو أُلزم المسلمون في مشارقالأرض ومغاربها وعلى مدى الزمن بطريق علمي واحد أو بوسيلة واحدة لتعسرعليهم ذلك ووجدوا فيه من الحرج والمشقة الشيء الكثير ، والله تبارك وتعالىيريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، فهذا الوجه جائز حدوثه، ولا محذورفيه شرعاً، كما أنه لا مناقضة فيه لما أسلفنا من القول بأن النظام السياسيفي الإسلام نظام محدد وليس مجرد مبادئ. ولايمتنع أيضاً أن تأتي النصوص الشرعية ببيان بعض الطرق التنفيذية أوالكيفيات أو الوسائل لتنفيذ أو تحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع، ويكونذلك البيان على سبيل الإرشاد والتوجيه وليس على سبيل إلزام المسلمين بهدون ما سواه من الوسائل الأخرى التي تحقق المقصود نفسه بدون مخالفاتشرعية. ولايمتنع أيضاً أن تأتي النصوص الشرعية ببيان الكيفية أو الوسيلة التي ينبغياتباعها في تحقيق حكم شرعي دلت عليه أدلة الشرع، ويكون ذلك البيان علىسبيل الإلزام؛ بحيث يجب على المسلمين سلوك ذاك الطريق واتباع تلك الوسيلة،ويحرم عليهم مخالفتها واتباع غيرها )
. مناقشة القول بعدم وجود نظام سياسي للإسلام :
( 1-إن هذا القول يصب في اتجاه الكارهين للنظام السياسي الإسلامي،
وتفصيل ذلك أنه متى قيل بأن الإسلام لم يأت بنظام سياسي،
وأنه لم يعتن ببيان أحكام تفصيلات النظام السياسي أو جزئياته،
وأن كل ما جاء فيه في هذا الصدد لم يزد عن كونه تقريراً لبعض المبادئ السياسية،
فإنه يمكن –لاسيما مع المخادعة-
تمرير النظم السياسية العلمانية تحت زعم تحقيق تلك المبادئ والمحافظة عليها
، أو على الأقل عدم مخالفتها،
لاسيما أن المبادئ المجردة تختلف وجهات النظر في تفصيلاتها اختلافاًحاداً، يصل إلى حد التناقض، وذلك أنه في تلك الحالة ليس هناك مرجع أعلىيمكن الرجوع إليه لمعرفة حقيقة تلك المبادئ وتفاصيلها. فهذهشعارات الحرية، والعدالة، والمساواة، وأمثال تلك الشعارات ترفعها الدولجميعها: من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويُنص عليها في دساتيرهاوقوانينها، ومع ذلك فبينها من الخلاف في الفهم والتطبيق ما بين المشرقوالمغرب من البعد وعدم اللقاء. وإننا لنرى الآن تحت شعار
"مبدأ الشورى"
المحاولات العديدة لإدخال النظام البرلماني الغربي وإضافته إلى الإسلام،بأصوله العقدية وتفصيلاته التطبيقية كلها: من مثل القول بأن "السيادةللشعب" وأن "الأمة مصدر السلطات"، وذلك على أنه تطبيق مفصل للشورى التيجاء بها القرآن
– زعموا- على سبيل المبدأ !! وتحت شعار "مبدأ الحرية"
يجري التشكيك في فريضة الجهاد، وفي قتل المرتد، وفي محاربة المرتدين
؛ لأن هذه الأمور –بزعمهم- تخالف مبدأ الحرية.
وتحت شعار "مبدأ المساواة" يصار إلى القول بأن الكفار والمشركين
من اليهود والنصارى وغيرهم ساكني دولة المسلمين،
لهم الحق في المشاركة في الحياة السياسية من حيث تولي الوظائف العامة
التي يكون لهم فيها قيادة واستطالة على المسلمين،
ويؤخذ برأيهم –كالمسلمين تماماً- في اختيار الحكام في الدولة الإسلامية.
وتحت شعار المبدأ نفسه يتم إخراج المرأة من بيتها لتكون عضواً
بمجلس الشورى، أو لتتولى منصباً وزارياً،
بل ويجعلون لها الحق أيضاً في أن تتولى رئاسة الدولة في بلاد المسلمين.
وهكذا تحت مظلة المبادئ التي يدَّعون، يُهدم النظام السياسي،
بل يُهدم الإسلام كله، وذلك قرة عين العلمانيين، لا أقر الله عيونهم )
. ( 2- القول بمجيء المبادئ دون التفصيلات هو في نفسه قول
متناقض وغير مستقر. وذلك أن هذا القول لابد أن ينتهي إلى أحد قولين
أ- إما القول بأن الإسلام لا تعلق له بالسياسية أصلاً كما يقوله العلمانيون المجاهرون.
ب- وإما القول بأن الإسلام أتى بنظام سياسي محدد له قواعده الكلية وله أحكامه المفصلة. وبيان ذلك يتضح من خلال كلامنا التالي: إن المبادئ التي يذكرها هؤلاء "العدالة، الحرية، المساواة، الإخاء" إلى غير ذلك،
تقر بها جميع الأمم، وتدعيها كل الدول، فما من دولة على وجه الأرض
إلا وهي تدَّعي الالتزام بتلك المبادئ –
وإن كانت كل دولة تقدم مفهومها الخاص بها لتلك المبادئ
كما ذكرنا ذلك من قبل- ففي أي شيء يفترق الإسلام في هذا المجال
في تصوركم عن تلك الأمم، إن كان كل ما جاء به فيه تقرّ به
وتدعيه أيضاً دول الكفر ؟ وما مرادكم بأن الإسلام
أتى بمبادئ عامة ولم يتعرض للتفاصيل والجزئيات؟
هل تريدون بذلك: أن الإسلام أتى بهذه المبادئ مجملة،
وأرشد إليها وطلب العلم بها، ثم لم يجعل للمسلمين طريقاً
إلى معرفة ما يتعلق بها من تفصيلات إلا ما تهديه إليه عقولهم،
أو ما يقلدون فيه غيرهم من أمم الكفر؟
إذا كنتم تقصدون ذلك فانزعوا عن هذه المبادئ
وما تعلق بها من تفصيلات الصفة "الإسلامية"
لأنه إذا كانت المبادئ مشتركة بين جميع الأمم، وكلهم يقر بها،
وكانت تفصيلات تلك المبادئ هي من ثمرات العقول أو تقليد الكفار،
فلا معنى لأن تعلق عليها لافتة "الإسلام"
إذ لا تصدق نسبة هذا النظام –مبادئ وتفصيلات- إلى الإسلام،
إلا كما تصدق نسبته بالدرجة نفسها إلى غير الإسلام،
بل نسبته إلى غير الإسلام أكثر؛ لأن الإسلام وإن اشتراك مع الأنظمة
غير الإسلامية في المبادئ فإن الأخيرة زادت عليه-زعموا-
ببيان التفصيلات، وحينئذ تكون النسبة إلى غير الإسلام أصدق وأدق !!
بل مضمون هذا الكلام –بلا أدنى ارتياب- هو أن الإسلام لا تعلق له بالسياسة أصلاً. ومنهنا يتبين أن صفة "الإسلامية" التي يريدون سحبها على تلك الأنظمةالمستقدمة والمجلوبة من بلاد الكفر، بزعم محافظتها على تلك المبادئ أمرباطل وغير صحيح. وإن كنتم تريدون بذلك القول أن الإسلام وإن لم يتعرض للتفاصيل والجزئيات،
لكن حكم هذه التفاصيل والجزئيات التي لم ينص عليها صراحة،
يمكن أن يستنبط من هذه المبادئ العامة بطرق الاستنباط المعروفة
والمدونة في كتب أصول الفقه، فإننا نقول لكم:
إن كان هذا مرادكم فقد أحسنتم من هذا الوجه، ولكنكم أسأتم من أوجه أُخر: أماالإحسان: فمن حيث ذكركم أن التفاصيل والجزئيات حكمها موجود في أدلةالشريعة، ويمكن استخراجها واستنباطها بطرق الاستنباط المعروفة في كتب أصولالفقه، وبالتالي تكون النصوص الشرعية وافية بجميع الأحكام التي يحتاجإليها المسلمون في نظامهم السياسي –أو غيره- سواء ذكرت تلك الأحكام بطريقالنص عليها مباشرة، أو ذكرت بطريق الاستنباط من المنصوص عليه.